top of page

تجربتي مع صلاح أبو سيف

مجلة الهلال - ٥ ديسمبر ٢٠٠٥
 كان نموذجا لما ينبغي أن يكون عليه المخرج
Salah_Abu_Seif.jpg

كان أول مخرج تعاملت معه هو الهرم السينمائي صلاح أبو سيف في خمس مشروعات سينمائية ظهر منهم ثلاثة...

 

فيلم قليل الأدب!

أول فيلم كتبت له سيناريو هو أخر فيلم عرض لي! كتبته عام ١٩٧٢ ولم يصور ويعرض إلا في عام ٢٠٠٢ أي بعد ثلاثين عاما بالتمام والكمال!

 

كنت خريجا حديثا في معهد الفنون المسرحية (قسم النقد وأدب المسرح) وكان الأستاذ صلاح أبو سيف قد شاهد بعض أعمالي التليفزيونية، وكانت لديه فكره لفيلم باسم (مدرسة الجنس) يعتزم إنتاجه وإخراجه فاختارني لأشاركه كتابة السيناريو ثم أكتب حواره. كان عمره ضعف عمري لكنه غاية في التواضع والدماثة. كانت الجلسات تتم في منزلي، يناقشني بهدوء وصبر حول الموضوع الذي يعالج المفاهيم الخاطئة حول الجنس وتسبب تعاسة الناس، رأيته يشترى مراجع للموضوع ويستشير الأطباء ويأتي بالفتاوى الدينية من الشيوخ، وكأنه يعد لرسالة دكتوراه. لكن عندما هم بدخول الأستوديو اصطدم بحائط الرقابة التي رفضت الفيلم بأكمله. كان الخطأ الأول له أنه سمي الفيلم (مدرسة الجنس) فكلمة "الجنس" علي أفيش في الشوارع - ولا تزال – مرفوضة، فالمعروف أن حياتنا تخلو من الجنس تماما!  كان الفيلم يتعرض لمشكلة فشل العلاقة الجنسية بين زوجين نتيجة اختلاف تربية كل من الرجل والمرأة في مجتمعنا، ولم يكن به أية مشاهد عارية لأننا قصدنا أن نخاطب عقل الجمهور لا إثارة غرائزه، وكان التركيز على مناقشة المشكلة من وجهة نظر علميه، وكانت هذه غلطته الثانية!

 

ظل يعيد تقديم السيناريو للرقابة كلما تغير مديرها وظلت الرقابة ترفض لخمس وعشرين عاما حتى أنه عرض على فكرة نشر السيناريو في كتاب لكن حالت ظروف انشغالي دون إعداده. وخلال ذلك صرحت الرقابة بعشرات الأفلام التي عرضت مواقف جنسية عارية مثيرة لكن ميزتها أنها لم تناقش أي شيء! وعندما وافقت الرقابة أخيرا تم عرض الفيلم بنفس السيناريو عام ٢٠٠٢ باسم (النعامة والطاووس)، ولكن من إخراج ابنه فقد كان الأستاذ صلاح قد تقاعد ثم توفي!

 

alna3ama_wa_altawos1_edited.jpg

فيلم تقدمي رجعي تافة!

 بعد عشر سنوات جاءني الأستاذ أبو سيف بفكرة فيلم (البداية) وعملنا معا لمدة عام حتى تمت كتابته وانتظر أربع أعوام حتى يجد المنتج الذي يجرؤ على إنتاجه، وقبل بدء التصوير بأيام كنت في الإسكندرية بجوار إحدى مسرحياتي وفوجئت به يأتي ليعرض على بعض تعديلات خطرت له، وإذا به يطلب شطب جمله وإضافة كلمه ثم حذف حرف "واو" من كلمه أخرى. ذهلت وسألته كيف تقطع هذه المسافة وكان يمكن أن تخبرني بهذه التغييرات تليفونيا أو تفعلها دون الرجوع إلي؟ رد بهدوء كان لابد ان نتناقش!

 

ظهر الفيلم في عام ١٩٨٦ فكتبت مذيعه تليفزيونية نالت الدكتوراه في السينما تنصح المخرج أن يعود إلى أفلامه الواقعية ولا يرتكب مثل هذه الأفلام الكوميدية التافهة ثانية. وفي العرض الخاص سأل كاتب صحفي شهير المخرج هل استعنت بطائرة هليكوبتر عسكرية تنقذ شخصيات الفيلم لتوحي بأن مشاكلنا تحتاج إلي حل عسكري؟! ورد الرجل بأدب أنه لا توجد طائرات هليكوبتر إلا عند الجيش وقد دفع الإنتاج ثمن إيجارها. ذهبت إلي اجتماع جمعية الفيلم الأهلية التي ستعلن فيه جوائزها متوقعا أن يفوز البداية بجائزة في أي فرع فلم يحدث. بعد شهور نال الفيلم جائزة أحسن فيلم كوميدي في رأي (الجمهور) في مهرجان فيفاي للأفلام الكوميدية بسويسرا واندهشت فالجمهور شاهده بترجمة فرنسية على الشاشة، وبالتالي فاتهم معاني كثيرة تثير الضحك ولكنها تستعصي علي الترجمة. لكن بما أنهم ضحكوا أكثر مما ضحكوا في الأفلام الأمريكية والأوربية فمعني هذا أنهم فهموا ما يكفي ليتجاوزوا التباين الثقافي بيننا وبينهم.

فيلم (البداية) .jpg

فيلم ولا مسرحية ؟

كان عندي قصة عن مؤسسة للمكفوفين تستغل إدارتها عاهة نزلائها فتسرق حقوقهم بدلا من أن تخدمهم وتحمس الأستاذ صلاح لإخراجها. رحنا نزور أطباء العيون، وأخذني في جولات لزيارة معاهد ومؤسسات المكفوفين نلتقي بهم وبمديريها لندرس موضوعنا، ثم فوجئت به يعتذر عن إخراج الفيلم. قال برقه أنه لم يلحظ أن أي إدارة تسئ للنزلاء أو تستغل عاهتهم ولذلك لا يطاوعه ضميره أن يظلمهم. حاولت إقناعه أن فكرتي لا تقصد عملا واقعيا يعالج مشكلة المكفوفين وإنما الاستغلال بوجه عام، وعاهة العمى هنا = الجهل بما يدور حولهم وهو ما يمكن أن يحدث للمبصرين، وعندما لم يقتنع عالجت الفكرة كمسرحية فظهرت باسم (وجهة نظر) وكتبت له إهداء المسرحية المطبوعة في كتاب وحضر العرض وظل يصفق بإعجاب.

 

Scanned Image 12.tif

فيلم كلب وفيلم بيئة!

استمر التعاون بيننا فعرض على فكره كتبها من عشرات السنين باسم (السيد كاف) وبعد أن كتبتها انتظرنا طويلا فلم نعثر على منتج يتحمس لفيلم بلا نجوم فالبطل الحقيقي كلب، فأقنعته أن ينتجها التليفزيون وكان الفيلم هو أخر ما أخرجه للسينما. ثم عملنا معا للمرة الخامسة عندما أقترح علي أن أكتب قصة وسيناريو لفيلم يتناول مشاكل البيئة. ولكنه فشل في العثور على منتج يتبنى العمل وسط أزمة السينما، ورأيته وقد كبر يائسا لأول مره يفكر في الاعتزال. ولا يزال السيناريو يرقد في أدراجي...

السيد كاف.jpg

لقد تعاملت مع نخبه غير قليلة من مخرجي السينما والمسرح والتليفزيون وأستطيع أن أقول أن صلاح أبو سيف لم يكن رائدا في مجاله فقط، أو مخرجا كبيرا فقط ولكنه كان المخرج.. باستخدام أداة التعريف الألف واللام- آي كان نموذجا لما ينبغي أن يكون عليه المخرج.

 

وإذ اعتبر نفسي محظوظا لأني عرفته وأنا ابدأ أولى خطواتي فى الكتابة، فإنني الآن اشعر أنى اشد الناس إحساسا بالبؤس والتعاسة لأنه لن تتاح لي ثانية فرصه أن أواصل معه التفكير والحلم بأفلام كثيرة، لا يهمنا أن تظهر أو لا تظهر. ترفضها رقابة ضيقة الأفق أو توافق.. يمتدحها النقاد آو يسخروا منها.

 

لقد كان فارق العمر بيننا كبيرا. وكان بيننا بعض الاختلافات الفكرية وأحيانا الفنية..

ولكني استمتعت بالعمل مع هذا الرجل كما لم استمتع مع أي شخص أخر. كنت أناقشه بكل حماس الشباب ولم يكن اقل منى حماسا رغم هدوئه. كنت أنسى انه فى سن أبى وأتعامل معه كزميل عمل.. ولكنني اشعر الآن بأنني صرت يتيما. 

signature.jpg
bottom of page