top of page

تجربتي مع الإبداع

مجلة الهلال -  ١ مارس ​١٩٩٣ 
الكتابة ليست وسيله لإثبات أي شيء وإنما هي وسيله للنقاش

لا اذكر متى بدأت الكتابة على وجه التحديد . لكن بين أوراقي أول قصه نشرتها وكانت في مجلة صباح الخير وشغلت مساحة اقل من نصف عامود .

كنت حينئذ في العاشرة . بعدها بخمس سنوات بدأت بجسارة في كتابة رواية طويلة .

فجأة توقفت وكتبت مسرحيتي الأولى . وبعد أيام وقع في يدي كتاب "فن كتابة المسرحية" للكاتب المجرى " لايوس اجرى " وهو من المراجع الهامة في هذا الشأن .ولأني لم استطع أن استعير الكتاب سوى ليله فقد سهرت للصباح كي أتمكن من قراءته كله .

عندما أعود آلي مفكرتي التي دونت بها خواطري و أنا على مشارف السادسة عشر

 أجد هذه السطور بالترتيب الأتي :

- بدأت في تكوين فرقة تمثيل اسمها فرقة التمثيل للأشبال . وكتبت مسرحيه لنمثلها.

- قررت أن أصبح كاتبا.

- قرأت كتاب ( فن كتابة المسرحية )

الآن يعنى ذلك لي أن تجربتي الذاتية تتلخص في هذه الخطوات الثلاث.

١ -  كتبت أولا .

٢ - ثم قررت أن أصبح كاتبا.

٣ - ثم حاولت أن اعرف قواعد الكتابة.

    عندما كبرت وبعد أن ظهرت لي بعض الأعمال الدرامية عرفت الخطوة الرابعة .

٤ - سألت نفسي عن ماهية الكتابة .

    ولازلت أجيب على السؤال و أطور الإجابة عليه من حين آلي أخر .

١ – الكتابــــة

تعنى الكتابة المبكرة أنها كانت احتياجا نفسيا وربما وجوديا .

اجتمعت ظروف كثيرة لتخلق هذا الاحتياج منها أنى جئت من أبوين عملا بالصحافة والكتابة والسياسة وعرفا صنوفا من الاضطهاد السياسي انعكست أثاره على في ذلك الوقت المبكر كما تأثرت باهتمامهما بالقضايا العامة وكان إدراكي لاختلافهما ما عمق إحساسي بالاغتراب وبالتالي خلق عندي حاجه إلي التعبير عن اختلاف مشاعري وأفكاري ومحاولة للاتصال بالآخرين والتأثير فيهم عبر هذا التعبير. كانت الكتابة بالنسبة لي إذن سباحة ضد الاغتراب  والإحباط أو كما قال أحد الكتاب الأمريكيين " وسيله خرافية لاحتواء الرعب  ". ويمكنني القول بثقة أن اغلب الأفكار التي تناولتها في مسرحياتي هي نفسها الأفكار التي شغلتني على نحو أو أخر في السنوات الأولى التي تقع بين العاشرة وسن الرشد .

 

٢ - الكاتـــــب

يعنى قراري المبكر أيضا أن أصبح كاتبا أنى اخترت أن أكون ما احتاجه فعلا ولازالت الكتابة بالنسبة لي حتى هذه اللحظة طريقه للوجود ... لكن لماذا المسرح تحديدا ؟

اعتقد أن ميلي للجدل هو السبب . كنت في الغالب طفلا صامتا أتأمل أفكار الناس  اكثر مما أتأمل وجوههم أو هيئتهم , فإذا استوقفني ما هو مرئي يكون أيضا لحساب ما هو فكرى,  لا يلفت نظري مثلا براءة وجه إلا إذا دل على نفسيه مناقضة ..الخ

وكنت أحاور الناس  فيما بيني وبين نفسي و أتخيلهم يردون على الحجة بالحجة مستعينا بما سمعته أو رأيته منهم . وكنت إذا آنست للآخرين ودخلت معهم في نقاش ,لا آمل من الجدل ولو امتد لساعات . كان تصارع الأفكار متعه بالنسبة لي . وعندما بدأت الكتابة للمسرح كنت أدير صراعا بين الشخصيات لكي اصل في النهاية

إلي إثبات ما أريده . لذلك كنت ابحث عن نهاية المسرحية بمجرد أن اعرف بدايتها . اقف خلف بطلي ضد خصمه ( مع توفير كل الضمانات له ليدافع عن نفسه  ‍‍! )

ثم تعلمت أن اترك الشخصيات تصارع بعضها دون تدخل منى وكأنهم جميعا أولادي بينما انشغل بأن أدير النقاش داخلي أنا .

كان أبى يتابع شغفي مع أصحابي للتمثيل ( بالنسبة لي كان شغفا بالتجربة المسرحية لا التمثيل نفسه ) وكنوع من شقاوة الكبار كتب لنا مسرحيه صغيره ( لم يكتب غيرها ) لكنى أدركت انه تعمد كتابتها بسذاجة لتناسب أعمارنا وتمردت مراهقتي على ذلك , وببساطة متناهية أعدت كتابة المسرحية مغيرا كل سطورها وحرضت فرقتي علـى تمثيلها بدلا من مسرحية أبى , لكنه بدوره لم تعجبه مسرحيتي  !

ما يستلفت نظري الآن آن كتابة أول مسرحيه ارتبط بتكوين فرقه للتمثيل .

لذلك لا أزال حتى الآن أدون أفكار مسرحياتي و أضيف واعدل فيها وقد اشرع في كتابتها لكنى غالبا لا أتمها إلا بعد أن أتأكد أنها ستعرض فورا , وهناك بعض الأفكار لم  اكتبها أو أتم كتابتها , إلا بعد مرور أكثر من عشرين سنه لهذا السبب .

لا اقصد من ذلك أن المسرحية يجب أن تكون طازجة كرغيف الخبز الساخن أو أنها يجب أن ترتبط بزمن معين فالعكس هو الصحيح وقيمة المسرحية تقاس بقدرتها على تحدى الزمن . ولكني اقصد أن الوعي بأن العرض سيظهر حالا هو ما يجعل الكتابة درامية  بحق .

القصة قد تقرأ ( سطورها ) على فترات , والفيلم - رغم كونه وسيله درامية - تراه ( صورا ) صورت من قبل . أما في المسرح فأنت أمام ( بشر ) يمثلون ( الآن   ) .

هكذا تعلمت أن اجلس للكتابة والجمهور وفريق الممثلين في ذهني . أتخيل المسرحية فاسمع شخوصها وهم يتكلمون واراهم يتحركون في فراغ خشبه المسرح .

إذا لم يتخيل الكاتب ممثليه ينطقون حوار شخصياته عاقبــه الممثلون - أو الأذكياء منهم - بأن يرفضــوا تمثيل مسرحيته. وإذا لم يتخيل وقع كلماته على مشاهديه , عاقبوه بأن ينصرفوا عن مسرحيته قبل نهايتها. والكاتب المسرحي كالأعمى مستطيع بغيره. ولقد تعلمت انه لكي يحترم كل الفنانين نص مسرحيتي على أن أفكر فيهم و أنا اكتب ,ولكي يقبل منى الجمهور أن أقول كل ما أريده حتى لو كان فيه ما يصدمهم , علي أن أفكر كيف أبقيهم في مقاعدهم ليتحملوا فلسفتي الفارغة  !

 

٣ - القواعــــــد

اعتقد الآن أن كتابتي لمسرحيه قبل التعرف على القواعد كان له ميزه .

حقا أنت بلا معرفة للأصول تتخبط وترتكب الأخطاء ولكن القواعد هي الصنعة فقط .

إذا تعلمت العروض أولا فقد لا تكتب إلا نظما آما إذا كانت روحك شاعريه فلسوف تعرف كيف تزن كلماتك فتغدو قصيده  .

كتب النقد وتراث المسرح تعلمك كيف تلم بقافية الدراما وموسيقاها وعروضها .

أن ( تصنع ) مسرحيه محكمه تتبع الأصول وترضى الجمهور لا يحتاج سوى بعض الذكاء وبعض الجهد , لكن أن ( تكتب ) مسرحيه لها قيمه تتجاوز أن يقول لك متفرج في نهايتهـا (  شكرا لقد قضينا أمسية لطيفه ) هو الشيء الذي لا يمكن أن يعلمه لك أحد .

لا ينبع تقديرنا لكاتب من مدى أجادته لصنع مسرحيه ولكن لروحه الإنسانية الخلاقة الكامنة في أعماله. صانع المسرحية الجيدة يبهرنا مثل حاوي لا نعرف سر مهنته لكننا ندرك انه ليس  بساحر حقيقي .الصنعة المتقنة ممكن تكرارها أما الخلق فلا يتشابه .

بعدان كتبت أول مسرحيه أدركت أن ما فعلته كان إعادة صياغة لمسرحية أبى وليست مسرحيتي الخاصة. وقد كتبت بعدها مسرحيات حبكت لها قصصا من تأليفي ولكنى كنت اسأل كل مره هل هي حقا مسرحيتي الخاصة ؟  هل لم أقلد فيها غيري ؟  وكيف تكون مسرحيتي الخاصة و أنا اتبع نفس القواعد والتقاليد والأساليب السائدة ؟

الصراع بين تقاليد وأساليب التأثير المسرحي وبين أن تكتب مسرحيتك الخاصة هو المشكلة وقد واجهتها . هو صراع شاق ومضني لكنه ممتع أيضا .

عرفت أنى لن استطع أبدا أن اهرب من التقاليد المسرحية ,أنها قدر أي كاتب درامي لكن عليك أن تراوغه وتمرر عن طريقه أسلوبك أنت .انه الوحش الذي لا يجب أن تقتله بل عليك أن تطلبه حيا ثم تروضه , لأن على ظهر هذا الوحش  ستدخل المدينة فتستقبلـك كالفاتحين العظام ولا تملك الجماهير عندما تراك على ظهره إلا أن تصفق لك.

٤ -  ماهية الكتابة

طوال انهماكي في الكتابة كنت اسأل نفسي ما الكتابة و هل لها رسالة ؟

يقولون ذلك . لكن الكتاب ليسوا أنبياء . هل للكتاب وظيفة ؟  يقولون ذلك . فهل كلنا إذن علينا أن نثبت قضيه واحدة ؟  كيف ولكل كاتب رأى ينفرد به ويكاد يختلف مع غيره ؟

هل يجب أن يكون الكاتب ملتزما ؟  يقولون ذلك . هل يلتزم بما يحدده ضميره ؟

ما معنى الضمير ؟  أليس هو الصدق مع النفس ؟  إذن يجب أن يكون الكاتب صادقا مع نفسه أولا قبل أن يطرح رؤيته على الناس  . لكي اعرف ما يجب أن أقوله للآخرين يجب أن اعرف ما أريد أن أقوله لنفسي وبالتالي فالصدق هو أن تعرف نفسك وذلك يتطلب أن تغوص داخلها وأنت تغوص  داخل شخصياتك المسرحية ! أصبح على أن أنصت جيدا لكي اسمع صوتي من أعماقي فأكتشفه ثم أعيد صياغته متخيلا وقعه على الآخرين .

الكاتب المسرحي يلاحظ شخصياته نعم ولكن بأي منظار يراها إن لم يكن بمنظار نفسه ؟

لقد لاحظت شخصياتي ورحت أتأمل فيهم, الآن على أن أتأكد من أن نظارتي سليمة .

وبعد أن كتبت كثيرا من المسرحيات والأعمال الدرامية عرفت أن الكتابة ليست وسيله لإثبات أي شيء وإنما هي وسيله للنقاش  .

وبعد أن كنت اكتب وجهة نظري التي تسبق جلوسي للكتابة تعلمت عندما اجلس  للكتابة أن أعيد تكوين وجهة نظري بأن أدير الصراع داخلي في نفس الوقت الذي أديره بين أبطالي .

اسأل نفسي وأنا اسأل عن شخصياتي , وكان يزعجني أن السؤال الواحد يولد أسئلة كثيـرة. ثم أدركت أن هذه ميزه .

ثم تعلمت أن اجعل الأسئلة تتولد في ذهن المتفرج أيضا .

كنت اكتب عندما يكون لدى ما أريد أن أقوله للناس واعتقد انه الصواب على نحو يقيني .

أصبحت اكتب عندما يكون لدى مشكله تؤرقني . ما يدفعني للكتابة الآن هو حيرتي وقلقي ودهشتي بل ومعاناتي عندما أرى الأمور من عدة زوايا مختلفة ومتناقضة .

أظن أن كتاباتي قد نضحت عندما أيقنت أنى لا املك اليقين .فالكتابة ليست تعبيرا عن الحكمة ولكنها محاولة للوصول إليها .

الحيرة والشك والقلق و الدهشة التي اشعر بها ,أحاول أن اطرحها على جمهوري واجعلـه يشاركني فيها , كأن لسان حالي يقول لماذا أعاني كل ذلك وحدي ؟

الآن عندما يخرج أحدهم من مسرحيتي ليقول أنها لم تعجبه أو لم يقتنع بما تقولـه لا يحزنني ذلك مطلقا . فإذا قال أنها رائعة لا يسعدني ذلك تماما ,  لكن إذا خرج

أحدهم مندهشا لا يجد ما يعبر به تماما فيصيح محتجا ( ما هذا الذي فعلته بنا ؟  ) أو ( ماذا تريد أن تقول بالتحديد ؟ ) أو يقول مرتبكا( لكنك لم تطرح علينا حلا للمشكلة )  أو يسأل بفضول ( بغض النظر عن ما توحي به المسرحية ما رأيك أنت شخصيا ؟  ) حينئذ اعرف أنى فعلت شيئا . ويحدث أحيانا أن يقول لي ثالث ( ابني في الثالثة عشر وقد أعجبته مسرحيتك وقرأ أيضا نصها المطبوع ) ..الخ , هنا فقط أقول لنفسي : لقد نجحت . لقد تواصلت مع ذلك الصبي الذي يعرف بحكم سنه كيف يندهش ويحتار ويقلق دون خجل.

ويعنى لي هذا أن الطفل بداخلي لم يكبر كثيرا بعد وأنى لازلت قادرا على التساؤل .

ما الفن ؟

أليس هو إعادة طرح الأسئلة بشكل جديد حول نفس الموضوعات القديمة ؟

بلى.. هو ذلك .

أليس  طرح الأسئلة هو دعوه لحرية المتلقي ؟

بل ..أليس هو بعض إجابة ؟

بلى هو كل ذلك ...

آما اليقين الكامل فلندعه لرجال السياسة والإرهابيين والنقاد  !

signature.jpg
bottom of page