top of page

تجربتي مع البكوات

مجلة المسرح -  ١ فبراير​١٩٩٣ 
فإذا تمت المسرحية آتوهم أنني لم اخلقها ولكنى حلمت بها
 مسرحية أهلا يا بكوات

سئلت مره - في حديث تليفزيوني - كيف تكتب مسرحياتك ؟
قلت : على ورق مسطر من اليمين للشمال .

 

وهى أجابه صحيحة وان كانت غير دقيقه ! لآني أظن - بلا مزاح - أنها قد تستغرق عددا من الصفحات يزيد عن عد صفحات المسرحية نفسها  !
وقد سألتني مجلة المسرح أن اكتب تجربتي في كتابة مسرحيه محدده وهى أهلا يا بكوات. وسوف أحاول   ...
بداية ,اعتقد أنني لا اكتب مسرحيات والأصح أنني أتخيل مسرحيات.
أما الكتابة في مجرد تدوين لهذا التخيل وهو عمليه ذهنية مركبه ومعقده.
تبدأ العملية ( وأنا هنا أتكلم عن تجربتي الذاتية ) بخاطر يلح على , ثم يتحول إلى فكره , تتصارع في الذهن بشكل جدلي فيتولد عنها المعاني والصور وتتشابك في علاقات متنوعة وهكذا تظل الفكرة تنمو وكأنها كرة الثلج التي كلما تدحرجت صارت تكبر شيئا فشيئا حتى تصل إلى اكبر حجم ممكن لها.
ابدأ تقليب هذه الكره فتصبح كأنها عجينه أشكل منها الملامح التي سبق أن تخيلتها , ثم تبرد العجين وتتماسك فيصبح العمل فيها أشبه بعمل النحات الذي يقطع من تمثاله كل ما يجد انه زائد ليظهر الشكل بالدقة المطلوبة . ويمكن تلخيص العملية هكذا : 


- خاطر .
- تعمد وضع الخاطر في صورة فكره تصلح لقالب درامي .
- معالجه أوليه للفكرة .
- دراسة حول خلفية الموضوع الذي تتناوله الفكرة .
- كتابة المسرحية .
- تنفيذ المسرحية
.
 

الخاطر
يحدث بالطبع أن اجلس أحيانا لكي أحاول خلق فكره جديده تصلح موضوعا لمسرحيه , لكنى أبدا لم اخترع أي فكره , إنما يقودني التفكير إلى العثور على خاطر أو بدقه مجموعه من الخواطر القديمة كانت تمر برأسي دون تعمد أن تكون عملا فنيا . والخاطر هنا هو ملاحظة سطور في كتاب , جمله في مناقشه, تصرف لشخصيه, حادث اجتماعي أو سياسي..الخ
وتتكاثر الخواطر وتتجمع كما تتجمع السحب في الأفق ثم تبقى في الذهن شهورا وأعواما .
وبالنسبة للبكوات كان الخاطر الذي يلح على يمكن تلخيصه في أن مجتمعنا يرتد فكريا إلى العصور الوسطى . وكنت منشغلا بوضع المثقف الذي يفكر بطريقه علميه ويدرك حقائق عصره وبالتالي يصبح قادرا على استشراف المستقبل .لا شك أن محنته في معرفته , فهو أن تكلم يعذبه مجتمعه المتخلف عنه ويضطهده وان سكت يعذب نفسه لأنه يرى المستقبل قادم بكارثة . وكانت تتراءى لي الأمثلة المشابهة ( جاليليو ..زرقاء اليمامة ..الخ  )
 

الفكرة
لكن ما الذي يكسب هذه الخواطر القوه بعد شهور وأعوام لكي تتحول في لحظه إلى فكرة متعمدة لعمل فني ؟ 
مازلت اذكر هذه اللحظة كأنها الأمس  .
كانت التيارات السلفية قد اغتالت السادات منذ اقل من عام وكانت توقعات البعض أن هذه مجرد البداية وكنت أقيم لثلاثة شهور في الاسكندريه حيث تعرض  مسرحيتي " أنت حر".
أقيم وحيدا في شقه مرتفعه تطل على شاطئ البحر . كان الوقت غروبا وكنت مكتئبا , ولا عجب فاليوم كان يوم ميلادي ! وهكذا تضافرت كل الأسباب لكي تدفع بسحب الهواجس  أن تمطر فجأة وفى دقيقتين تحولت إلى فكره واضحة كسطوع الشمس  يلتهب بها رأسي محملة بإحساس قوى يجيش  به صدري فأكاد الهث من شدة وطأته. قفزت إلى مائدة الطعام وكتبت في أعلى الصفحة كعادتي تاريخ اليوم ١٨ أغسطس  ١٩٨٢ . وفى دقيقتين دونت الفكرة في صفحه واحدة عن شخص  يجد نفسه بطريقه غير مفهومه وقد سقط في بئر الماضي ويضطر في البداية أن يخفى حقيقته ثم ما يلبث أن يجد نفسه مدفوعا إلى نقل ما يعرفه عن المستقبل للناس لكي يعملوا على تغييره إلى الأفضل لكنهم ينكروه .
وسرعان ما سجلت بعد سطور ( بئر الماضي هذا هو اسم المسرحية ! )   
هل الكتابة وسيله لمقاومة الاكتئاب والوحدة ؟ 
هل هي محاولة لمحاربة شيطان العبث الذي يوسوس في صدور الناس أمثالي ؟ 
هل حاولت آن أؤكد لنفسي وقد انقضت سنه أخرى من عمري أنني مازلت قادرا على كتابة مسرحيه جديدة ؟ 
هل رأيت في نفسي ذلك الشخص الذي سقط في بئر الماضي ولكي أرضى غروري أقاوم خوفي جعلت من شخصي بطلا وتظاهرت بالشجاعة فهزمته على الورق وكآني استخف حتى بالهزيمة ؟ 
كل هذه الأسئلة لم تدر بفكري ساعتها . لكنى اعتقد آن الدافع العام وهو رؤيتي لزحف التيارات السلفية على مجتمعنا لأي كفى وحده دافعا لكتابة مسرحيه بكل ما يعنيه ذلك من معاناة ! وإنما لابد أن يجتمع الدافع العام مع حاجتك النفسية. 
أن تصبح أنت المسرحية.
والمسرحية هي بعض  منك !
لكن بمجرد آن دونت الفكرة برد إحساسي تدريجيا .
قرأت ما كتبت ثم قلت بخيبة أمل لا ليست هذه هي المسرحية التي توهجت في رأسي ..
أنها فكره ناقصة ومخلة ومشوهه مما خطر لي وجاش  به إحساسي . لكن ما كان يواسيني أن هذا الأمر يتكرر دائما مع كل فكره جديده ! 
 

المعالجة
وبدأت كرة الثلج تتدحرج . في كل يوم يخطر لي جديدا فأكتبه كمذكرات سريعة من  سطر أو سطور قليلة وأصنفها كالعادة في عدة ورقات .
فورقه خاصة بملاحظات عن الشخصيات وأخرى خاصة بالفكرة والمعنى وثالثه بالتكنيك , ورابعة بملاحظات متفرقة لم تصنف بعد وخامسة عبارة عن أسئلة أجيب عليها بكلمة نعم ..لا .. ربما ..أو اتركها حتى اعرف الإجابة يوما .وتتراءى لي جملا فأكتبها , جمله في موقف لم  يكتمل أو جمله قرب نهاية المسرحية , زى معين ترتديه شخصيه ,فكرة مشهد .. تصور لشكل ديكور معين ..الخ  .
أنها مرحلة بلورة الفكرة وتتداخل معها مرحله المعالجة الأولية  .

اهلا يا بكوات.jpg

وانتقل بالقلم  بين هذه الأوراق المبعثرة اكتب سطرا هنا وسطرا هناك واشطب واعدل وأضيف ..واكتب مزيدا من الأسئلة..

 

س     : هل بطل المسرحية شخص  واحد ؟ 
ج     : لا. فهناك المثقف الذي يملك رغبة التغيير وهناك الانتهازي أيضا .
س     :  وما هي علاقتهما ببعض ؟  غرباء ثم يتعارفان ؟  أصدقاء ؟  أقارب ؟ 
ج     : بل زملاء دراسة وبلديات .
س     : وما عمل كل منهما ؟ 
وبعد تفكير اصل إلى أن المثقف المثالي الذي يعتنق منهجا علميا هو مدرس رسم فقير, بينما الانتهازي الذي سينكر علمه هو دكتور في العلوم والتكنولوجيا درس في أمريكا واشتغل في بلاد عربيه عنده ثروة وله نفوذ  .
هذا هو الأقرب لواقع المجتمع وهو المفارقة التي تؤكد رؤيتي في أن المشكلة في نقص منهج  العلم وليس العلم في حد ذاته , كما سيخدم ذلك بناء المسرحية لأنه يجعل الانتهازي هو القادر على تنفيذ المخترعات  بينما يجعل المثالي مجرد رجل يتحدث عن أشياء لا يستطيع تنفيذها أو  إثباتها عمليا .

 

س     : أين الأدوار النسائية هنا ؟ 
ج      : هل لابد أن تكون هناك أدوارا نسائية ؟  المرأة كانت وقتها وراء الحرملك لا تلعب دورا في الحياة ( باستثناء الفلاحة المصرية ) لم تكن إذن سوى مادة للصراع 
          والتنافس , وبما أن برهان الانتهازي سوف يكتنز العسل والمسلى ويشترى البغال  الفاخرة ( سيارات ذلك العصر ) فسوف يتزوج أربعه ويشترى الجواري .
س      : وما هو موقف محمود من ذلك ؟ 
             حسنا الآن بدأت أتفرج على شخصياتي . يرد محمود .
محمود : بالطبع سأعمل على تغيير وضع الجارية أيضا .
أنا     : وهل تحبين محمود يا أمنه ؟ 
أمنه     : طبعا ساحبه خاصة إذا جعلته يعرض على الزواج !
محمود     : سأفعل طالما هي الوسيلة الوحيدة لعتقها.
أنا     : لكن لماذا تحبها أنت أيضا يا محمود ؟ 
محمود     : كنت أحب فتاه تشبهها لكن والدها اجبرها على الزواج من الرجل الأغنى والأكثر نفوذا 
أنا     : لماذا لم تقل لي ذلك من قبل . إذن سيعرف الجمهور ذلك من المشهد الأول.
 ويصيح الناقد بداخلي .
الناقد     : اضبط . أنت تفتعل مصادفة الشبه لتقيم حبكة المسرحية!
أنا     : هي لا تشبهها لكن محمود يتخيل ذلك لتشابه وضع حبيبته مع وضع الجارية !
الناقد     : إذن أكد هذا في المسرحية اجعل برهان مثلا يقوله .
أنا     : يكفى أن محمود يرى في أهل الماضي كلهم شبه بمن عرفهم في الحاضر ولندع
          الباقي لتفسير النقاد يستنتجونه هم  ( بالطبع لا يتعب اغلب النقاد أذهانهم لهذا الحد )
الناقد     : إذن أنت تدس حكاية حب والسلام .
محمود     : لا . لأنني أحببتها وحاولت تغييرها فقد أفشيت لها سر أنى من عصر مختلف .
          وأصبحت هي الشاهدة على عندما حاكمني الماضي .
أمنه     : لم أتحمل أن أراهم يعذبونه , اعترفت  عليه لكي يرحموه .
س     : أي وقت من العصور الوسطى سيسقط فيه البطل وزميله ؟ 
الناقد     : لابد من لحظه حاسمة بحيث يكون المستقبل القريب الذي ينتظرهما ويحاولان
  تغييره حدثا قويا معروفا لدى جمهور المتفرجين .
  هل يكون الفتح العثماني ؟  وهكذا تبدأ مرحلة دراسة الموضوع 

الدراسة
أعيد قراءة كتب التاريخ عن الغزو العثماني وابحث عن كتب جديده وبعد فتره أقول انه تاريخ موغل في القدم , وابحث عن تاريخ اقرب . هل يكون أيام على بك الكبير أو محمد بك أبو الدهب ؟  واسرح وأتخيل الأحداث والشخصيات . فتره من التردد والحيرة الغبية .
أخيرا وجدتها . أنها الفترة التي سبقت دخول حملة نابليون أي قبل بدأ عصر النهضة.
كيف لم أفكر في هذا من قبل ؟ 
ثم أجد نفسي أمام مفارقه درامي جديده . إذا كانت المفارقة الأولى هي مثقف ينكر علمه لكي  يعيش  وفى ذات الوقت لا يمكن أن يعيش  مستسلما لمستقبل قريب يعرف وحده انه مظلم ,  فالمفارقة الأعظم أن دخول الحملة سوف يتبعه مجيء محمد على الذي وعى درس الحملة ومن ثم بدأ عصر النهضة . عندئذ فقط تأكدت أنني سأكتب هذه المسرحية !
واقرأ شخصية مصر لجمال حمدان وآخره المماليك وكتابا عن الأزياء في العصر المملوكي ووصف مصر لعلماء الحملة الفرنسية حتى الجزء المصور منه و أحملق طويلا في لوحاته خاصة لوحة مراد بك .
أعيد قراءة الجبرتى مرات واقرأ عنه وعن كل ما يقع تحت يدي بخصوص  هذه الفترة ومنه كتاب  " بونابرت في مصر" لكريستوفر هيرولد " الذي يرسم صورا حيه كأنها مشاهد سينمائية لذلك التاريخ . وما أشبه دخول محمود وبرهان لعصر المماليك بحمله مصريه تحاول  أن تسبق نابليون وتهيئ الأذهان للعصر الحديث وبذلك تصد الحملة الفرنسية .لكنهما أي محمود وبرهان  يصبحان في نظر مواطنيهم وكأنهما من الفرنجة الكفار ما أشبه اليوم  بالبارحة !  واترك الأوراق زمنا, مللا أو عجزا أو لانشغالي بأشياء أخرى و أنساها شهورا ثم أتذكرها لسبب أو لآخر فأدون مذكرات جديده دون أن اجرؤ على البدء في كتابة المسرحية  أو معالجه مكتملة لها بل اسأل نفسي هل  حقا هذه فكره تصلح لمسرحيه جيده وهل سأكتبها فعلا ؟! 

 

الكتابة
كنت قد سألت نفسي من البداية كيف وأين تظهر هذه المسرحية ؟  لا يمكن أن تقدمها فرقه خاصة حتى " استديو ٨٠ " التي أسستها مع محمد صبحي فهي تقوم على بطلين لا بطل واحد . لا يوجد إلا المسرح القومي , ولكنى لم اقدم في حياتي أي مسرحيه لأي جهة ولن افعل !
قلت حتى يجئ المدير الذي يطلب منى مسرحيه سأنشرها في كتاب - على حسابي طبعا- فمره أخرى لن اعرضها على أي ناشر ( بالفعل نشرتها على حسابي ولكن بعد عرضها ) 
ولكنى انشغل بكتابة أعمال أخرى ستجد طريقها للتنفيذ .
بعد مرور ست سنوات جاء محمود يس للقومي وبحث عن رقم تليفوني ليطلب منى مسرحيه .. حكيت له الفكرة فتحمس  وطلب منى تسليمها خلال ثلاثة شهور ليفتتح  بها موسم الصيف
قلت سأحاول لكنني قاومت نفسي بشده بل أني  تباطأت على قدر ما يمكنني , خوفا وقلقا.
تكمن مشكله أساسيه في الكتابة , إذ يخيل إليك في البداية انك تعرف الواقع وبالتالي ما تريد أن  تقوله لكن هذا ليس  سهلا عندما تكتبه كمسرحيه ففي التفاصيل تضطر لمراجعة كل شيء وان تنحى جانبا كل ما آمنت به طيلة حياتك ! ولكن هذا يطول شرحه هنا .
الآن وأنا بصدد الكتابة لمسرح بعينه في تاريخ معين علي أن أعيد كل حساباتي من جديد.
عيون جهاز الرقابة على المصنفات , مائدة البروفات وحولها الممثلون يتلمظون ,المخرج الذي جاء ومعه رؤيته الجاهزة, خشبة المسرح بإمكانياتها المحددة ,الصالة بجمهورها الذي جاء يتحداك أن تعرف ما يريده لأنه هو نفسه لا يعرفه تماما ! كل هذا يصبح ماثلا في رأسي مع كل جمله أخطها على الأوراق . الآن أنا لست حرا بنفس القدر الذي كنته , لكن لا حرية إلا من خلال الضرورة . وهى هنا كل هؤلاء. ولكن بهم ومعهم يتحقق معنى حريتي أيضا. لأنني لا أستطيع أن العب وحدي .لا أخشى أن تتعارض رؤيتي معهم لكن المهم إلا يندموا على حضورهم إلى المسرح سواء كانوا من الفنانين أو الجمهور .
باختصار الآن ابحث عن المزيد من التأثير . أراجع كتب فن الدراما لعلى نسيت . استرجع خبرتي في أعمالي وما شاهدته من أعمال الآخرين .اقرأ على زوجتي بعض مما كتبت وما انتويه . استطلع رأى بعض الأصدقاء , اسمع صوتي وأنا اردد جمل الحوار لأعرف أين ضعف صوتي . الآن احذف بجرأة اكثر , فهذا خارج عن الموضوع وهذا زائد وهذا غامض وهنا تكلمت بلساني بدلا من لسان الشخصية .وهنا يجب ألا يقف ممثل الدور صامتا لفترة طويلة وإلا فلن يقبل الدور . وهنا يستحسن أن احل المشكلة دون الاستعانة بديكور آخر .
نعم أنها الصنعة المسرحية التي فكرت بداية من خلالها لكنها الآن الحبال المتينة التي اربط بها كل أثقالي حتى لا تتبعثر أثناء الرحلة .
من البداية ألح علي سؤال . هل اكتبها بالفصحى أم بالعامية ؟  وأجلت الإجابة وعندما كان يخطر لي بعض جمل الحوار اكتبها كما يمليها على إحساسي أو الموقف نفسه  , وأحيانا كنت احتار فأكتب نفس الجمل مره بالعامية وأخرى بالفصحى .
جرت العادة في المسرحيات التي تتخذ من فتره تاريخية إطارا لها أن تكتب بالفصحى .
و الآن وقد جلست للكتابة فقد سألت نفسي .


س : لكن هل كان أمراء المماليك أو العامة أو حتى المتعلمين في هذه الفترة  يتحدثون بها ؟ 
ج : لا . بل أن العامية نفسها كانت مختلطة بكثير من الألفاظ التركية .
     ولا يتكلم الفصحى إلا علماء وطلبة الأزهر
ولكنى أتردد فالمسرحية تناقش منهج التفكير وهى قضيه فكريه بطبعها وتستدعى الفصحى بقدرتها على التعبير عن الأفكار المجردة وفرق أن تقول ( هذا الشيء ) مثلا وان تقول ( الحاجة دى ) . تستمر تلك الحيرة  وقتا ثم تأتى الإجابة مفاجئه . لست بحاجة أن اجعل أهل الماضي يتحدثون بلغه لا يستخدمونها( عدا الشيخ ) ولن احتاجها في التعبير عن أفكارهم التي لا تعرف التجريد عموما , أما محمود وبرهان فيتكلمان فعلا بلهجة تجمع بين الفصحى والعامية بحكم ثقافتهما, وعندما يضطرا لإخفاء حقيقة عصرهما فمن المنطقي أن يتحدثا مع أهل الماضي  بالفصحى ليغطيا على جهلهما بلهجة العصر الماضي ولأن عاميتهما الحديثة ستفضح شذوذهما . لكن ما الدافع أن يتحدثا بالفصحى مع بعضهما أحيانا ؟ 
بما أن برهان سينقاد للماضي ويلبس  لباسهم ويتصرف مثلهم فمن الطبيعي أن يتحدث مثل علمائهم بالفصحى خاصة وقد لاحظ أن الناس يحترمون من يتحدث بها ويحاول محمود السخرية منه لكن العدوى تنتقل إليه بعد قليل .
إذن ستكون هناك الفصحى والعامية القديمة التي استخرج من الجبرتى قاموسا لمفرداتها. الدعوات والسباب وأسماء الأشياء والمهن والتعبيرات الدارجة ..الخ .
( فيما بعد سيكتب أحدهم في مجلة الفنون: لو كان المؤلف قد قرأ تاريخ الجبرتى ...) وبعد حوالي ستة اشهر كنت قد انتهيت من كتابتها .
 

التنفيذ
كنت دائما ولا أزال متحمسا للفنانين الشبان ورأيت أن البكوات خاصة تحتاج لمخرج شاب يملك الجرأة الفكرية قبل الفنية وبينما كنت اكتب رحت أتتبع العروض  المسرحية بحثا عنه وهكذا رشحت لإخراجها عصام السيد بعد أن شاهدت له مسرحيتين دون أن أراه شخصيا .
وبعد جلستين وبناء على مناقشتنا حذفت بعض الجمل وأضفت بعضها ثم توقفنا أمام المشهد الأخير الذي كان يرى اختصاره لكنى صحوت يوما وفاجأته بحذف المشهد كله .
كان المشهد في قسم بوليس  حيث يذهب البطل ليدلى ببلاغه عما شاهده في رحلته للماضي اكتشفت انه بخطابه إلي أهل الماضي في المشهد الذي يسبقه قد أدلى بالبلاغ بل اكتشفت انه كان يحدث أهل الحاضر دون أن يدرى وهكذا آخذت من مشهد النهاية بضع سطور وعدلت نهاية المشهد السابق ليصبح هو النهاية .
امتدت البروفات لشهرين تقريبا كنت حريصا كالعادة على حضورها وظهرت المسرحية ونجحت ورغم هذا أجريت بعض الاختصارات الطفيفة على مشهدها السابع بعد حوالي الأسبوعين .
هذه هي تجربتي في كتابة مسرحية أهلا يا بكوات باختصار مخل وهى تنطبق على كل مسرحياتي الأخرى خاطر يقبع في الذهن سنوات ثم يتحول لفكره احتفظ بها لعدة سنوات أخرى ( بلغت في مسرحية بالعربي الفصيح مدة عشرين سنه ) ثم اكتبها في عدة شهور .
فإذا تمت المسرحية آتوهم أنني لم اخلقها ولكنى حلمت بها وان هذه المعاناة الطويلة ليست إلا محاولة متعسرة لتذكر شتات هذا الحلم الضبابي الذي برق في ذهني كالشهاب ذات غروب ولم يستغرق إلا دقيقتين .
هل استطعت أن انقل للناس تلك الشحنة من الأحاسيس وذلك الدفق العقلي من الأفكار والصور التي تزاحمت على رأسي لحظتها ؟ 
قررت منذ فتره طويلة أن أتجاهل السؤال بأن أؤجله لمسرحيه أخرى , فالإجابة بنعم ولو مرة واحدة تنهى اللعبة , وأنا اعتقد أننا كي نواصل الحياة , لا يجب أبدا أن نتوقف لحظه عن اللعب  !

signature.jpg
bottom of page